دراسة اجتماعية في أجزاء: الجزء الثاني: البعد الحيوي العام
أسامة خليفة
باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
بقي مفهوم المشاركة لفترة طويلة ينظر إليه على أنه نظام نشاطات ليس له بعد، فالمشاركة ترتبط بعدد لا حصر له من النشاطات التي يمكن أن يساهم الفرد مع الآخرين في إنجازها، وتكون مجالاً للتعاون تحقيقاً لهدف مشترك، ومجموعة النشاطات المرتبطة به تختلف من جماعة إلى أخرى، وتتنوع بتعدد مجالات الحياة التي تقدم فرصاً مخصصة للفعل تمكّن الفرد بأن يقوم بدور نشط فيها.
كما تختلف وتتعدد بحسب مستوى التحليل الاجتماعي في النظرة إلى (المجتمع، الطبقة، الأسرة، المدرسة الرفاق، النادي...) بل إن مفهوم المشاركة واسع يرتبط بالنشاط ونقيضه في مجال قضية واحدة، مثال ذلك أن المشاركة السياسية تشير إلى حالات الدعم الجماهيري للسلطة، كما تشير في الوقت ذاته إلى حالات المعارضة الجماهيرية للسلطة.
تعمقت الدراسات المتلاحقة للمشاركة وانتشرت في بلاد عديدة، وحاولت أن تجيب عن عدد من الأسئلة، وتقيم أنماطاً نموذجية للمشاركة، مما ولد فهماً أكبر وأعمق لمفهوم المشاركة، وتطور وتحدد المفهوم ليصبح مرتبطاً ببعد حيوي عام، كالتنمية في حالة الدول المتخلفة، والممارسة الديمقراطية في البلدان البرجوازية، وإقامة قاعدة مادية تكنيكية على أسس الملكية العامة في الدول الاشتراكية، انهاء الهيمنة الأجنبية في البلدان المستعمَرة، إنهاء التبعية الاقتصادية والسياسية في البلدان التي تعاني من الرابطة غير العادلة والعلاقة غير المتكافئة مع النظام الرأسمالي العالمي، وقضايا أخرى مثل التطور أو التغير الاجتماعي في بلدان مختلفة.
إن المشاركة السياسية ليست مجرد القيام بدور رئيسي في صنع القرار السياسي، بل يمتد إلى القيام بأدوار أخرى في العملية المجتمعية التي تؤثر وتتأثر بالعملية السياسية، ويبقى المثال الأبرز في موضوعات المشاركة السياسية هو الحملات الانتخابية، ودعم أو معارضة السلطة، أما الالتزام والانتماء إلى منظمة سياسية فهو موضع جدل، فالعمل بموجب الأوامر أو التكليف يعتبره بعضهم خارج نطاق المشاركة، لكن المؤكد أن الجماهير قد تعزف عن الانتماء إلى المنظمات الجماهيرية والحزبية التي تنص أنظمتها الداخلية على أن الانتساب إلى صفوفها طوعي، لذلك فارتفاع نسبة الانتساب إلى منظمة ما يعتبر مشاركة سياسية متقدمة، إن دور المؤسسات والتنظيمات السياسية ليست مجرد إطار يتم من خلاله المشاركة السياسية، ولكنه يؤثر ويفسر هذه المشاركة، بما تطرحه هذه التنظيمات من أهداف هي بالأساس مشتقة من تطلعات فئات وطبقات اجتماعية، وبمقدار ما تعبر هذه المنظمات عن أهداف جماهيرية واسعة يكون السلوك السياسي الاجتماعي المشارك في صفوفها ضرورياً وحيوياً في إحداث التحولات، وفي دراسة لأوضاع الشباب الفلسطيني في مخيمات سوريا أواسط العام 1989، قام بها مركز الدراسات في المكتب المركزي للإحصاء الفلسطيني، والتي كان من بين أهدافها معرفة مدى مساهمة الشباب الفلسطيني في العمل الوطني، واستطلاع رأيهم حول مستقبل القضية الوطنية الفلسطينية، بينت نتائج البحث على صعيد المشاركة الاجتماعية السياسية عزوف الشباب الفلسطيني عن الانتساب إلى المنظمات الجماهيرية، حيث بلغت نسبة الانتساب 13،4% من الشباب الذكور، و8،3% من الشابات الإناث، أما في مجال العمل النقابي فبلغت نسبة الشباب المنتسبين إلى الاتحادات والنقابات 11% فقط، مما يدل على عدم الاهتمام الجدي بالعمل النقابي.
وتبين أيضاً أن ما نسبته 65،8% من شبان العينة موضوع الدراسة ليس لهم أي علاقة بنشاطات العمل الوطني بكافة أشكاله، ضعف الارتباط بنشاطات العمل الوطني قد تفسر بسبب انتقال مركز ثقل العمل والنشاط الوطني الفلسطيني من مناطق الشتات إلى داخل الوطن المحتل بعد خروج فصائل المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982، وهي حالة تفاقمت بعد التوقيع على اتفاقات أوسلو في 13 أيلول/ سبتمبر1993.
في ميدان المشاركة الاقتصادية هناك أمثلة عديدة عن نشاطات حيوية في كل المجتمعات دون استثناء، منها: المبادرات الاقتصادية، كالعمل التطوعي، والمشاركة في التقليل من الهدر، ورفع انتاجية العمل، والمساهمات المالية .. أما في المجتمع الفلسطيني، تبرز أمور حيوية كثيرة ناجمة عن تبعية اقتصادنا للاقتصاد الإسرائيلي، كالتركيز على أهداف التنمية المستدامة وحيويته للمجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال للتخلص من هيمنته وللتخلص من الفقر المدقع الذي عم وشاع خلال السنوات الماضية أكثر من أي وقت مضى، وهذا يعني أيضاً عدم إهمال أهداف أخرى كتنمية المهارات، لإعداد جيل المستقبل لسوق العمل الفلسطينية التي تستغني عن سوق العمل الإسرائيلية المهينة والعنصرية والمستغلة لقوة العمل الفلسطينية، كما وتبرز أهمية مقاطعة المنتجات الإسرائيلية كأمر حيوي، بالإضافة إلى التحلل من بروتوكول باريس الاقتصادي وهيمنة الشيكل على السوق التجارية والتبادل الاقتصادي.
وفي مجال المشاركة الاجتماعية، تبرز مشكلة الولاءات المناطقية والعائلية والدينية .. بل والتنظيمية باعتبار أن التعصب التنظيمي الأعمى أدى إلى ولاءات أشبه بالولاءات القبلية، فأصبح الانقسام السياسي في الساحة الفلسطينية أحد أهم القضايا الحيوية التي ينبغي معالجتها، ليس فقط في إطار المستوى القيادي المتحاور على جولات منذ زمن قد طال بلا جدوى، بل بتعميم سلوك دوافعه تقوم على قيم التسامح بين أبناء البلد الواحد، والولاء للوطن، والانتماء الواعي للجماعات المختلفة، وتحجيم العصبوية.
وفي الجانب الاجتماعي تبرز أيضاً مكانة ودور المرأة في المجتمع الفلسطيني، حيث مازال دورها دون المطلوب وفق ما يحدده لها العادات والقيم المتوارثة، رغم ذلك اتسعت حجم مشاركة الإناث بصرف النظر عن أن نسبة مشاركة الذكور أعلى بكثير، وما زالت الشابات الإناث يركزن على الأسرة في إعطاء الأولوية لدورهن في حياتهن المقبلة، وهو ما يحد من دورهن الحيوي كنصف المجتمع في الدوائر الاجتماعية الأوسع.
المشاركة الثقافية من مجالات نشاطات المشاركة المرتبطة بقوة بالمشاركة السياسية، حيث يبرز الجانب المعرفي في المسائل العامة، والثقافة السياسية جزء من الثقافة العامة، وضرورة للمشاركة الثقافية كأمر حيوي، فالثقافة لا تعني فقط تحصيل المعرفة في بعدها النظري، بل الثقافة ضرورة موضوعية لعملية مشاركة فعالة، فلا وجود لسلوك مجرد مفصول عن الإطار المعرفي، كل سلوك ينتمي إلى ثقافة معينة كما أن الثقافة والمعرفة تصقلان السلوك وتوجهه.
إن العناية بالثقافة الفلسطينية والدفاع عن الشخصية والخصوصية الفلسطينية أمر حيوي، في مواجهة الهجمة الصهيونية الشرسة التي تستهدف التراث بكل تنوعاته وغناه الحضاري الذي تجمعه هوية وطنية ناتجة عن العيش على جغرافيا متصلة خلال تاريخ مشترك ممتد عبر زمن طويل. حيث الشخصية الأساسية تحدد السمات المشتركة لشخصية الأفراد الذين يعيشون في ظروف بيئية واجتماعية وثقافية متماثلة، وفي مجتمعنا الفلسطيني يتأثر الأفراد بظروف حياتهم الاقتصادية والاجتماعية وبدورهم في عملية الإنتاج ويكون لعامل الانتماء الطبقي دور في تكوين شخصية فرعية، نتيجة الاختلاف في الظروف المعيشية الحياتية للطبقات الاجتماعية الفلسطينية، ونلاحظ ذلك بوضوح في آثارها على العمال الذين يعملون في إسرائيل والمستوطنات ومعاناتهم من التمييز القومي العنصري في الأجر وفي إجراءات التفتيش القاسية على المعابر والحواجز الإسرائيلية، وآثارها التراكمية في خلق شخصية ناقمة على الظلم، لكن وقوع المجتمع الفلسطيني بكل طبقاته تحت تأثير ظروف الاحتلال يجعل لمجموع الطبقات مصلحة في إزالة الاحتلال، وهذا عامل هام في توحيد المشاركة والتنشئة أي القيم وأنماط السلوك الصادرة عنها.
من كل ما تقدم عن الأمور الحيوية للسلوك المطلوب في ميادين النشاط، هل يبرز في الحالة الفلسطينية الاهتمام بالمشاكل البيئية كأمر حيوي ينبغي للجهود أن تبذل في مواجهة التحديات البيئية؟. أم إعطاء الأولوية لمواجهة الاستيطان وعنف المستوطنين، واقتحام قوات المستعربين المناطق السكنية الفلسطينية، ومخططات الضم والتهويد؟.
كل تلك الأمور حيوية حتى البيئية منها، لكن نحن نقف أمام الحلقة المركزية للمجتمع الفلسطيني التي تتركز وتتمحور حولها كل الجهود لتحقيقها، والتي قد تكون أهدافاً مرحلية أو استراتيجية، وفي الحالة الفلسطينية وتوزع الفكر والايديولوجيا على جهات سياسية متباينة، نجد اختلافات جوهرية حول الحلقة المركزية للنضال الوطني، بل وحول ما هو مرحلي وما هو استراتيجي.
وحسب المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الحادية والعشرين في مدينة غزة، أن بناء وترسيخ السلطة الوطنية الفلسطينية باعتبارها الحلقة المركزية في برنامج الاستقلال الوطني، هو المهمة الأولى والرئيسية لشعبنا الفلسطيني، ولمجموع القوى والفصائل والأحزاب المنضوية تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، وإن استمرار أجواء الاحتلال وسياساته ومحاولات فصل الضفة عن القطاع والتحديات الجسام والصعوبات والعراقيل والأحداث المفتعلة التي توضع في وجه السلطة الوطنية يقصد منها ضرب هدفنا في الاستقلال وإقامة الدولة المستقلة، إن نجاح الشعب الفلسطيني وقواه في بناء وترسيخ السلطة الوطنية هو الشرط الموضوعي والمسبق؛ لاستكمال مهمة إجلاء القوات الإسرائيلية واستكمال العمل لتعزيز الكيان الوطني الفلسطيني الوليد وتطويره، وصولا إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.