سأقاضيك/ أيها العمر/ لأنك لم تنصفني./ سأقاضيك/ لأنك أسرفت /في الحزن...
أن تقرأ ديوانا شعريا حديثا أو معاصرا دون أن يسري في شرايينك الإحساس بالألم أمر مستبعد للغاية، حتى ليوشك المرء أن يجزم بالقول بأن الشعر والألم في الفن صنوان، يستمد كل منهما قوته من الآخر، ولا يفترقان مهما تعددت التيارات، وتباينت الحساسيات، واختلفت التجارب الشعرية، وامتدت العصور الأدبية. لكن التعبير عن هذه الأشجان، والإعراب عن هذا الأسى فنيا يأتي متباينا بين الشعراء جميعهم، ذلك أن كل شاعر ينسج شعره على شاكلته، ويغني على ليلاه وفق نشيده الخاص، ورؤيته الفنية، وتصوره الفكري، وتجربته الشعرية، من هنا تتبلور وتتبرَّر رغبة هذه القراءة - وكل قراءة- في الكشف عن مكامن الألم وأسرار أشجان العالم الشعري عند الشعراء المعاصرين من خلال تجاربهم والوقوف عند نقط الائتلاف والاختلاف بينهم.
وبعد أن اتضح أن الربيع في الواقع العربي سحاب خلب، وأن أزهاره قد ذبلت في حينها، واستكمل الحول دورته، يأتي الخريف ليكشف عن عورة الواقع، ويزيح القناع عن الوعود الكاذبة، ويمزق الستار لتبدو الأشياء على حقيقتها المرة. ووحده الفن - والشعر تحديدا- يترصد هذه التغييرات، ويسائل آفاقها، ويرصد أسئلتها، ويرسم خيباتها، ويستشرف توقعاتها، ويثبت أن كثيرا مما نعيشه ونحياه ونقوله أو ندّعيه هو ضرب من العبث، ومن الشعارات الزائفة، ومحض أحلام لا أساس لها ولا أفق، إذ ما يفتأ الزمن يثبت زيفها وهشاشتها وخداعها ومكر أصحابها. وعين الشاعر تترصد هذه الخيبات وتعيد مساءلتها وبناءها رغبة في إحيائها واستنباتها من جديد على أرض الواقع.
وإذا كنا نجمع على أننا نعيش الخريف بكل سلبياته، وفي مختلف مجالات الحياة، وواقع الحال تفضحه عيونه وشواهده، والحلم يراودنا ويسكننا ويشغلنا - ما دام في الجسم قلب ينبض- فإن المستقبل هو ما يؤرقنا بمختلف توقعاته ومخاوفه وهواجسه، وفي هذا السياق يأتي ديوان الشاعر بوجمعة لكريك (ما بعد الخريف) ليرسم هذا الأفق كما رسمه ويرسمه شعراء آخرون في بعده الذاتي الخاص والمجتمعي العام. ولا بد أن نشير في بداية هذه المقاربة أن للشاعر والمترجم بوجمعة الكريك أعمالا سابقة، ذلك أن (ما بعد الخريف) هو الديوان الثالث بعد ديوان “قراءات في ملامح وجه شاحب” (2014)، و”La complainte des Muses” (2017)، وأعمال شعرية أخرى مشتركة باللغة الفرنسية.
عنوان الديوان - موضوع القراءة- متوالية إسمية تفيد الإثبات وتوظف وحدات معجمية تستغرق جميعها الزمن، والزمن في الأصل ملازم للحدث أو للفعل، وعنوان هذه القراءة مستوحى من قصائد الديوان التي يحكمها مدلول شعري يشمله إحساس قوي بانفلات الزمن الطافح بالحب، ووشوك انقراض زمن المحب، والرغبة في القبض على اللحظات الجميلة المتشظية بين الماضي والحاضر والمستقبل، مما يوقظ في النفس جراحات دفينة تنبعث على شكل زفرات حرّى مسكونة بالحنين، يصدرها الشاعر من أعماق قلبه، ويسكبها في قالب فني مدهش.
جاءت الواجهة الأولى لغلاف الديوان موشومة بشجرة واقفة، في فضاء قاتم السواد عارية أغصانها البنية من الأوراق، باستثناء فرع واحد منها أفرز ثلاث عشرة ورقة فاقعة الخضرة، ومختلفة الحجم، مما ينم على أنها في طور الانبثاق، ويعكس شكل الشجرة عموما فكرة التأرجح بين فصلين، الخريف والربيع، مع ترجيح الأول وهيمنته على الثاني، والصورة وليدة عنوان الديوان، لأنها تنبّر على الخريف كتيمة أساسية، وكبؤرة دلالية مهيمنة، وتعكس الواقع الفعلي، في بعده الرمزي، في علاقته بالذات الشاعرة وبالعالم، وتحيل على الربيع في بعده التأويلي الاستشرافي:
أراقصُ خريفَ الْعُمْرِ .../ أمَنّي النَّفْسَ بما لَمْ يَمُتْ بَعْدُ
تأسيسا على هذه الملاحظات الافتراضية نقرأ الديوان رغبة منا في الكشف عن تجليات عبرات الحرف الشعري بين الشوق والتوق، ولنتأكد من مدى تحققها فنيا، ولنجيب عن سؤال توجيهي أساسي، يتحكم في مختلف مجريات هذه القراءة، كيف يتشكل النص الشعري مبنى ومعنى؟ على أن نسلك سبيل التمثيل لا الحصر، لأنه ليس من السهل اختزال نصوص الديوان جميعها، لعمقها الدلالي وثرائها الفكري، ولخصوصيتها الجمالية التي تقتضي وتقترح على القارئ – كما ألْمَح ولَمّح الشاعر إلى ذلك في مقدمة الديوان- أن يقرأها على مقام الوفاء. يقول الشاعر ""لن أغادر هاته الدار نكرة، حروفي على مقاس العمر نظمتها، فاذكروني بقافية البسمة ومقام النقاء"
- عبرات العشق/ نشيد الغياب:
على الرغم من أن الديوان لم يُستهل بإهداء خاص فإن قصيدة (صبيان المناجم) قد نَمَّت عن هذا الأمر خاصة عندما عُزّزت بصورة شمسية لأب الشاعر بجانب الإهداء "إلى روح والدي رحمة الله عليه"، مما يدل على أن هذا النص الشعري له وقع قوي وأثر بليغ على نفسية الشاعر، لا لكونه هدية منه إلى الأب وإلى أطفال المناجم عامة، بل نظرا لكونه يجسد من حيث مدلوله الفكري والاعتباري، محور قصائد الديوان وقطب رحى الرؤية الشعرية التي يصدر عنها الشاعر في (ما بعد الخريف)، مما يصح معه اعتبار نصوص الديوان كلها مهداة إلى روح الأب وعمال وآباء أطفال المناجم، لأنها جميعها يربطها خيط رفيع يتمثل في العزف على وتر الألم، وهو مظهر أساسي من مظاهر الشوق، يتشكل وفق هواجس الذات، ورغبتها في البوح والمحاجّة وإثبات الاسم الدال على مدلوله دلالة قطْعية ودلالات رمزية:
إسْمي رَمْزٌ/ يَعْلَمُ طلاسمَ/ خباياهُ/ صبيانُ الْمَناجِمِ../ إسْمي نَبْعٌ/ مِنْ جَوْفِ أبي/ تقيَّأهُ حُمْرَةً/ مِمّا تَبَقّى/ مِنْ رِئَتَيْهِ/ إسْمي مَوْجودٌ/ في سِجِلِّ الأمْواتِ/ الْأحْياءِ/ مُدَوَّنٌ بِالأحْمَرِ/ وَالْأسْوَدِ../ إسْمي قَديمٌ قِدَمَ الْحِجارَةِ/ فَلا تَقُلْ عَنّي/ أنّي نَسيتْ!
ولا شك في أن عبرات الشوق مبعثها الغياب، غياب الآخر بمختلف تجلياته، وجدانيا ووجوديا، كما تعكسه نصوص الديوان، فالغياب خلو الواقع من معادل رمزي يمنح للذات توازنها، ومبعث الشوق الحرمان أيضا، وكل منهما يكمل الآخر، فالحرمان غياب وصمت يَشْغَرُ عالم الذات ويملأ خواءها بالفراغ ويُشْعِرها بعدم تحقق الإشباع العاطفي، كما أن الشوق لباس يسكن جل نصوص(ما بَعْدَ الْخَريفِ)، وترسمه التجربة ممتدا عبر الزمن، لأنه جزء من كيانها، لا يرتبط بالماضي وإنما يتجاوزه إلى المستقبل، كما يسع الحاضر الذي يجسد بؤرة عبرات الشوق.
فيا سَمائي/ و يا نُجومي/ غَنّوا مَعي/ مَلْحَمَةَ الْكَذِبِ/ الْمَلْفوفِ بِشَريطِ النِّفاقِ/ واتْرُكوني، بَعْدَ نَفادِ النَّبيذِ/ وَصَمْتِ الْمَزاميرِ،/ أرَدّدُ وَحْدي نَشيدَ الْغِياب.
ومنازل الشوق وعبراته في الديوان درجات ومستويات، فهو إحساس دافئ تارة، وحار تارات أخرى، يحتدم أواره في نصوص شعرية كثيرة، ويفتر سعيره أحايين قليلة، وتتعدد بواعثه بتعدد النصوص، تبعا لتغير اللحظة الشعرية في الزمان والمكان، وهكذا يمكن القول بأن وراء كل نص شعري عبرات دفينة وعجيبة؛ إذ كلما ابتعد المشتاق إليه وتعذر وصاله ازدادت شدة الشوق، والبعد هاهنا ليس بعد المسافة فحسب، أي لا يرتبط بالزمان أو المكان، وإنما بالعائق الذي يحول دونه، سواء أكان عائقا ماديا أو روحيا، والملاحظ أن باعث الشوق في الغالب عائق معنوي وروحي مركب يأخذ مظاهر شتى عبر امتداد الزمن:
وَيا لَيْتَ الْمَنِيّةَ تُمْهِلُني/ لأحْضُنك بِبَهْو سَماءٍ تُظَلّلُنا/ وأغْتَسِلُ بِدِفْءِ عَبَراتِ الشّوْقِ.
وتشكّلات الشوق عديدة أيضا، بحيث يتلبس هذا الشعور العارم كل المقومات البانية للمتخيل الشعري، فيجسد عاملا مساعدا في تشييد عوالمها؛ إذ يشمل الشوقُ الصمتَ، بحيث يسكن الشاعر، ويتملك لاشعور الذات الشاعرة، فتستحضره النصوص الشعرية كقطب مؤثث لعوالمها الباطنية، وكتجل من تجلياتها التشكيلية والفنية؛ ففي نص تحت عنوان (الصمت)، وعلى سبيل المجاز، يحاور الشاعر الصمت حوارا نديا، ويناجيه مناجاة العاشق لمعشوقه المشتاق لوصاله، رغبة في الكشف عن وجدان دفين يتقاطع مع ذوات كثيرة تشبهها، وفي المسكوت عنه الذي لا تستطيع الذات التعبير عنه إلا شعرا، لكن بدل أن يقرأ الشاعر الصمت يقرأه.
تَعال صَمْتي/ حاوِرْني بالْجَهْرِ أو بِالْهَمْسِ/ تُذْهِبْ عَنّي ضَبابا أضَلّني/ بِحُروفي أشْقى ولَكَ/ أنا عاشـقٌ/ صَمتي.../ تعال ضمّنــــــــي/ نَقْرأ مَعا ما تَبادَلْنا،/ خِلْسَةً، مِنَ الرّســـــــــائِلِ/ نَتَذَكّر وُعودا قَطَعْناها/ وَلَوْ أنّكَ خُنْتَــــها/ مُرْغما تَقول!/ وَما أدْراني؟
- عبرات الحرف/ ضفائر المعنى:
ويتلبس الحرف الذات الشاعرة، وتتلبس الذات الحرف الشعري، فيصبح مصيرهما مشتركا، والمعاناة واحدة، مما يؤكد حميمية النص الشعري في المنظور التخييلي للشاعر بوجمعة لكريك، ومن أجل ذلك يصارع الشاعر الحروف ويتخذ منها مركبا، أو تتخذه جسرا يقود إلى مرفأ معاني شعرية تأبى الحضور وتتمنع عن وصال قد يغدو مستحيلا، ففي خضم التفاعل مع الحروف لا أحد منها ضم الشاعر وعطف عليه، ولا حرف منها أسعفه بالظفر بالمحبوب في أبجدية الهوى، وهذا يؤكد إحساس الشاعر بالاغتراب من داخل العالم الشعري وليس من خارجه فحسب، إنه اغتراب مضاعف:
أَعيشُ عُزْلَتي/ بِلا مَعْنى.../ أنْتَظِرُ حَرْفاً آخَرَ/ يوصِلُني بِمَرْفَأِ/ الْمَعاني.../ كَالْحَرْفِ الْوَحيدِ/ أُرْفَعُ، أُنْصَبُ وَأجَرُّ/ وَلا مَنْ يَضُمُّني!/ أنا الْحَرْفُ التّائِهُ/ في أَبَجَدِيّةِ الْهَوى.
ويحس القارئ بالحروف ترقص على إيقاع الحزن، وترقّ رقّة قلب الشاعر الشغوف ندّا والمفعم ودّا، وتتشكل تشكل الرؤيا الشعرية التواقة إلى القبض على اللحظات الجذلى، والذكريات الحالمة والوقائع والأحداث الموشومة في الذاكرة، تلك التي تركت أثرا قويا في النفس، فيوقظها الشاعر عبر التفكر والتذكر والتدبر، ويحرك رياح شوقها الذي ينبعث من الأمكنة عبر زمن الكتابة المفتوح. ويتلبس الحرف الطيف في فضاء يؤثثه الفراغ، ويملأه الصمت، ويخيم عليه جو الخريف، ولا يجد الشاعر من يؤنسه في وحدته، فيلتمس الأنس والسلوى في ظله، فيحاوره على سبيل المجاز محاورة الند لنده. يقول مصورا بعمق حجم الفراغ ووحشة الخواء وهول الضياع في عالم فقدت فيه الأشياء معناها الروحي والمادي:
هَمَسْتُ لِلْقَمَرِ تَعَبي/ فَأتْبَعَني وَجَعُهُ وَجَعي/ رَكَضْتُ مِنْ هَلَعي/ حَتّى أنّي مِنْ طَمَعي/ سَألتُ ظِلّي/ مَنْ أضَلَّكَ عَنّي/ احْتَجْتُكَ وَقَدْ جَنَّ لَيْلي/ فَلا أنا أنا ولا ظِلُّ الظّلِّ ظِلّي....؟
لا يمكن للقصيدة أن تولد، ولا لحروفها أن ترى النور، إلا إذا توفرت لها شروط التحقق، استنادا إلى منطق يصدر عن رؤيا تؤمن بأن القصيدة كائن يولد وينمو في عوالم الذات الشاعرة الداخلية، ولا يخرج إلى الوجود إلا بناء على إنشاء علاقة حميمية وليدة غواية القصيد. كما لا تنشأ هذه العلاقة إلا بناء على أواصر تنسجها بواعث وجدانية تتعدد ألوانها وتشكيلاتها، باختلاف قصائد الديوان. ويسخّر الشاعر كل الوسائط الممكنة من أجل تحقق الوصال الحميمي على الوجه الأكمل، فيوظف تقنيات بلاغية وأسلوبية ولغوية تتيح له التعبير عن مكامن الذات، من قبيل استلهام وتوظيف المعجم اليومي المتداول وأسلوب وسائل التواصل الاجتماعي التكنولوجية الحديثة. يقول:
لِقَلْبي رَصيدٌ غَيْرُ مُنْتَه/ فَهَلْ لَكِ قَلْبٌ بِرَصيدٍ مِثْلِه؟/ عَدَدُ الرَّنّاتِ/ بِعَدَدِ النَّبَضاتِ/ والْخَطُّ مَفْتوحٌ لَكِ/ فَاطْلبيني أنّى شِئْتِ/ خاطِبيني بِالنَّقْرِ وَالرَّمْزِ/ والْغَمْزِ إنْ تَأتّى لَكِ/ عُلْبَتي الصَّوْتِيّة غَيْرُ مُفَعّلَة/ لِأنّ حُلْوَ الْكلامِ ما يُهْمَسُ.
وعندما يسعى الشاعر إلى وصال القصيدة تتمنع عن المثول والامتثال وتأبى أن تنصاع له، بحيث تتخيل الذات الشاعرة حبيبا لها في عالم الهوى، وهو ما ينم عن عمق الإحساس بالغربة لدى الشاعر، خاصة عندما يتصور القصيدة طرفا في معادلة التوازن الوجداني، وعائقا يحول دون الوئام العاطفي، فتتخذ القصيدة من جنسها محبوبا على سبيل المجاز، فتحب القصيدةُ القصيدَ، وتذر الشاعر وحيدا يسائل ذاته، ويناشد السماء أن تجود بإلف تأنس به، وتتخذه عضدا لها في واقع يعمه الصمت والفراغ والوحشة والخيبة:
حينَ رقَصْتُ/ رقصْتُ وحيداً/ في غَفْوَةِ أفراحي/ والْحرْجَفُ تعْزِفُ على وتَرٍ وحيدٍ/ نوتَةَ ما مضى منَ الأحْلام..!
الحرف الشعري إزميل ينحت به الشاعر جسد نصوصه الشعرية ويشكل به معالم عوالمه الشعرية، بحيث يتهيأ للقارئ أن الشاعر يذوب في حرفه ذوبان الثلج في الماء، لأن الحرف في منطوق الشاعر وعاء قُدّ على مقاسه، ويدل هذا على أن الشعر عند الشاعر بوجمعة لكريك كائن حميمي وجواني تخصبه التجربة الخاصة، فيولد من تربتها وينمو، يشعر ويحس، يحضر ويغيب، ينصاع ويتمنع، يحب ويراوغ. يقول مخاطبا ريح الذكرى وقد ولت أيامها بدون رجعة، وقد حركت رياحَ عبرات الشوق في ذاته طقوسها، ورغبته في القبض على الحرف وبالحرف على مائه وناره:
باللهِ عليك ارْقُني حُروفَ إسْمي/ على صَحيفةِ صَدْرِك،/ حُروفٌ مِنْ ماءٍ ونارٍ/ يَتَواتَرُ الْحُمْقُ وَالشَّوْقُ/ سياطا تُؤَرّقُني !/ أرَتِّبُ طُقوسي/ أرَتّلُ قَصيدي/ أبَيتُ بِمِحْرابٍ في كَفّك/ كَقِسّ يَهابُ الْمِسْترال/ كُلّ خَوْفي،/ أنْ يجفَّ الشريان،/ مِنْ صَمْتِ شَهْرزاد !
وتنبعث من الذات التي تعاني من لظى الشوق وكمد الفراق ولواعج الشقاق حروف تنشد الكمال والجمال، رسما وشكلا، روحا وهيئة، وهي في ذلك تسعى وتشقى؛ تسعى لأنها تريد أن تثبت جدارة الاسم وتبرهن على أنها صوت لا صدى، وتشقى لأن تحقيق الذات شعرا ليس أمرا ميسورا ولا ميسرا، ذلك أنه مطلب صعب، ومركب وعر، ومنها القبض على المنفلت من الزمن الجميل. والشاعر إذا كتب بث الحركة في الموجودات الملموسة والمحسوسة من حوله تشاركه مشاعره. إذ يصور الشاعر نسفه وحيدا يعيش عزلته القصوى:
يَأتيني لَهيبُ الشَّوْقِ شَرْقا/ ونفسي بِيَدي شَمالا/ والشَّمْسُ إذ أشْرقَتْ/ ذَكَّرَتْني بِرَوافِدِ نَجْوايَ/ وَإِنْ غَربتْ اسْتَحممت/ في شفق عينيك.
- عبرات التوق/ مرمدة الرؤية:
النص الشعري عند الشاعر بوجمعة لكريك طلقة واحدة، تستجمعها الذات لتندفع دفعة قوية، لتتخلص من قيود أوتادها، وشرنقة حبالها، ومن فيوض مدلولاتها، وذلك عبر لغة شعرية منزاحة، ترسم شاعريتها الوثابة، تنقشها حروفا وهّاجة، لتشكل نصا شعريا، في شكل لوحة فنية محكمة الإخراج، تعكس جماليا انشطار الذات وحطامها وتشظيها، بحيث يبدو للشاعر وكأن كل ما في العالم في حاجة إلى إعادة الصوغ، لأن الأشياء من حوله لا تستجيب لأحلامه وتطلعاتها، ومن ثمة فهو في توق دؤوب نحو صور ورؤى ونبوءة، يحقق فيها الشاعر ذاته، ويترجم من خلالها هواجسه، ويملأ بها فراغه الروحي والوجداني، ويكشف بها عن مضمرات النفس، الأمارة بالصمت، التواقة للحرية والانعتاق:
كَمْ مِنَ الْعَبَرات/ هَوَتْ كَالرُّطَبِ/ جَفَّ حُلْوُها/ عَلى قَفْرِ الْوَسائِدِ/ فَتَبّاً للْعَصوفِ مُسْقِطُها/ وتبّاً لي/ ما كُنْتُ هُنا لِجَنْيِها.../ وَكُلُّ سَلْوايَ صورَةٌ/ تلوحُ لي كَالنُّبوءةِ وأنا/ كَالحُطامِ مِلْءَ الْحُطامِ/ أنْتَظِرُ مُسْعِفي...
عبرات التوق تعكس حرقة الشاعر وتطلعه نحو التحقق الفعلي للأحلام المؤجلة والأماني المرجأة، في بعدها الخاص والعام، مما يعني أن الأمل في الغد، وما بعد الخريف، يظل حاضرا مهما تعددت العوائق، واشتدت لحظات اليأس، وتعددت الأسباب؛ إن الحلم هاهنا يغدو قرين الرؤية التواقة إلى الانعتاق، وقرينا للشعر لأنه حمّال الرؤى، فمع كل نص شعري يولد الحلم ومع كل لحظة شعر ينتشي التوق، وفي كل مكان شاعري تنمو الحروف، وفي كل فضاء جميل تولد الصور، وعلى وقع الذكرى الأمارة باللوعة تطرب الذات، فيتشكل جزء من الرؤيا التي يسعى الشاعر تحققها، ولكن تشكيل رمادها أمر صعب وجمع شتات دخانها توق عسير:
أقتص لنفسي من نفسي/ وألقي بقيتي في مرمدة/ بها شظايا منها ومني/ أسقي شوكتي حزنا كل صباح/ حين أستفيق من حلم رمادي/ سد شهيتي للألوان، وكأن.../ شقائق الحلم حزانــــــى/ رأيتني أرمق ظلي الغائب/ يغادرني، يعاكـس/ ظلال الشظايا المبعثرة/ على جدران المرمدة
ويراود الشك الذات الشاعرة، فلا أمل ولا حلم يلوح في الأفق لأن الواقع بمختلف مؤشراته يرسم الخيبة بمختلف ألوانها، لكن إذا تأمنا تجد الحلم حاضرا حتى ولو أصبح – كما تعالجه النصوص - نتيجة طول الانتظار مقصودا في ذاته ولذاته، وهو ما يعمق الاحساس باليأس في كثير من النصوص الشعرية المشكلة للديوان. فهل يمكن القول بأن النص الشعري عند الشاعر بوجمعة لكريك يصدر عن رؤيا قد لا تختلف على وجه العموم عن أغلب الشعراء المعاصرين، حين تنظر إلى الواقع العام نظرة انتقادية مسكونة بالسواد وإلى الذات الشاعرة نظرة جوانية مشحونة باليأس؟ وهي بذلك لا تقصي الذات لأنها جزء من التجربة، وما ينبغي لها ذلك مادامت ينبوع الشعر، بيد أن هيمنة بنية دلالية ما أمر حاضر ووارد مع هذا دون ذاك وهو ما يميز كل تجربة عن غيرها ويمنحها فرادة وتعددا واختلافا:
حِكايتي/ نَسَجْتها خيوطا/ على قفّازات يَدَيْها/ لمّا تشابَكَت النظرات/ حكايَتي ألفتها شِفاه/ سردتها آلافُ المرات/ والأحداث تتهاوى/ كقطْنِ الثّلج/ متمايِلة.../ مُتماسكة.../ حتى الذوبان!/ حِكايتي تمتد إلى/ كلِّ الأزمنة/ تكتسي ثوبَ/ كُلّ الْحَضارات.
نصوص الديوان ترقص في مجملها على وتر خريف ولّى ربيعُه إلى أمد بعيد، وأمل قد يأتي أو لا يأتي، وتتشكل زبدا من هول البحر، ونسيجا من ثوب المجهول، نصوص يسكنها الحنين على إيقاع الذكرى، ويمزقها أنين على وجع الفقد، ومتاهات الضياع، نصوص تتشبث بالحلم حتى حين، مسكونة بحكايات تنشد الخلاص، فيدب الأسى في جسد القصيد دبيب النار في الهشيم، ويسري في كيان الشاعر سريان الماء في الدوالي، من طول انتظار تلك التي نسي الشاعر ذكر اسمها، على سبيل الإختفاء، وهروبا من الإفشاء الذي يضعف الشعر، ويردي روحه، فتغدو طيفا مترامي المدى:
ترامى طَيْفُكِ قَيْدَ الْمَدى،/ عاج من سفر ولا متاع!/ ساقتني ضفائر الشوق،/ إليك معتم البصيرة/ أشْقَحْتُ الَوَريدَ عنِ الوَريد/ِ فما طابَ لي سمرٌ والليل قدْ أقمر!
وتستمر المعاناة من جيل إلى آخر، وكأن الانسان خلق كدوحا، ومحكوم عليه أن يحيى حياة شقية، بحيث يتخيل الشاعر الدنيا مسرحية عبثية، جمهورها أعمى، والشاعر مات في بدايتها بعد غُيّب صوته تغييبا قسريا، كل هذا يكرس لا جدوى الواقع وخنوعه، وتواكله وخضوعه، ولكن ما أجمل أن يأنس القارئ - كما الشاعر- بجانب النصوص الشعرية الغارقة في عبرات أفروديت قبساً من نور اليقين، فتنبعث رياح الأمل، ونسائم البشر، وبوادر الفرج، وشتائل المعنى وفراشات المغنى، ومواويل اللحظات الجذلى:
مايا،/ مايا وُلِدَت الْيَوْمَ/ وبيدها/ قَلْبٌ يَعْشَقُها!../ مايا وُلِدَتْ اليوم./ صَرْخَة عِشْقٍ/ أعْلَنَتْ شُروقَها بَغْتَة./ فَصِحْتُ: أحِبُّ/ نَبْضَ مايا،/ صَرْخَةَ مايا/ وَكُلَّ مايا !..
إن الخيال باعث قوي من بواعث كثافة المعنى عند الشاعر بوجمعة الكريك ومحفز محوري من محفزات نمو مشاتلها في عالم المجاز، فالقصيدة حاضرة بحرفها ونبرها، بروحها وشكلها، بأثرها وتأثيرها في مخيال الشاعر كما في تجربته الخصبة والمفتوحة على كل الاحتمالات والممكنات، وبذلك تجسد القصيدة صيرورة لا مبتدأ ولا منتهى لها، فمن خلالها يلج الشاعر عالمه المفكر فيه على أساس التذكر والتوقع فعسى أن يكون الطالع فأل سعد فتنبعث في الشاعر وفي الفضاء نسمات العشق وبهارات الجمال:
أكتب قصيدتي كل صباح/ على جبين سبورة الحنين/ لتنتشي بنبع الولع المتاح.
وبعد فإن النص الشعري في ديوان (ما بَعْدَ الْخَريفِ) نص عميق، وغني، وقوي: عميق لأنه يستغور الذات الشاعرة وحقيقتها في علاقتها بالتجربة الخاصة، وفي تفاعلها بالعالم من حولها، وفي استلهامه لمرجعياته، وغني لتعدد وسائطه الفنية، واختلاف مجالاته المعرفية ورقي مدلولاته الشعرية، وقوي بانسجامه الفني واتساقه الجمالي.
