في دروس «معركة القدس» وتداعياتها..[ قراءة أخرى ]

فهد سليمان

نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية
لتحرير فلسطين

(1)

«سيف القدس»، الفصل النوعي الحاسم في «معركة القدس»

■ لم تكن معركة «سيف القدس» إنطلاقاً من قطاع غزة محطة منفصلة عما سبقها من تطورات، بل شكلت «الفصل النوعي الحاسم» في مواجهة إشتعلت نيرانها في الضفة الغربية، بأشكال نضالية مختلفة، كانت شرارتها، بل عنصرها التفجيري الإفتتاحي معركة «باب العامود» في 13/4/2021.

ففي مواجهة سياسة التهويد، ومحاولات سلطات الاحتلال، طمس معالم القدس، إندلعت في المدينة هبّات شعبية إمتدت من باب العامود إلى الشيخ جراح، إلى سلوان، إلى العيساوية والعيزرية، إلى الأقصى الذي بقي على مدار الأيام عرضة للانتهاك على يد عصابات المستوطنين، وشهدت أنحاء الضفة تحركات مماثلة، على أبواب مستوطنة «بيت إيل»، وفي بلدات مختلفة، في بيتا، وكفر قدوم، وبيت دجن، ونعلين، وبلعين، ومحافظات الخليل وجنين وطوباس وسلفيت وسواها.

■ كذلك شهدت الضفة سلسلة عمليات فردية، حملت في طياتها إشارات ذات مغزى، تُنبيء بحالة الغليان التي تعتمل في نفوس المواطنين وتؤشر إلى استعداد الحالة الجماهيرية إلى الاستجابة للإنخراط في كل أشكال النضال، وتقديم التضحيات مهما غلت. ولا شك أن عملية زعترة -2/5/2021 على سبيل المثال، تشكل نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه الحالة الشعبية، لو توفرت لها التعبئة السياسية وآليات التأطير في قيادة وطنية موحدة، تستنهض كل عناصر القوة في ميدان النضال الوطني الفلسطيني، وبالتالي جاءت معركة «سيف القدس» فصلاً نوعياً حاسماً في معركة شاملة، ولم تكن هي بداية المعركة، ولا النار التي أشعلتها، بل إن النار التي أشعلت معركة «سيف القدس» هي نيران الانتفاضة الشعبية التي امتدت على مساحة الضفة الغربية، وفي القلب منها مدينة القدس. فلا غرابة إذن أن تُطلق تسمية «معركة القدس» على المواجهة الكبرى التي امتدت من 13/4 إلى 21/5/2021، وأن نبرز في هذا السياق حقيقة أن المواجهة العسكرية غير المسبوقة في إطار «سيف القدس» كانت فصلاً حاسماً من فصول هذه المعركة.

■ وبالتالي، كخلاصة أولى، المواجهة العسكرية النوعية على امتداد أحد عشر يوماً، إنما تجد سياقها الطبيعي في مجرى المواجهة الأشمل، وكرافعة فائقة الأهمية لاستنهاض الحركة الشعبية المناهضة للاحتلال، أي المقاومة الشعبية الشاملة بكافة أشكالها، وبما يغطي ساحة الحضور الفلسطيني على أرض الوطن (48 + 67) وبلدان الشتات، كل موقع بحسب إمكانياته وأشكال النضال المتاحة.

(2)

«معركة القدس»: الانتصارات والدروس والاستخلاصات الأهم

■ خضعت «معركة القدس» للدراسة والمراجعة على يد العديد من مراكز القرار في العديد من عواصم العالم، كما لقيت إهتماماً من العديد من أصحاب ومراكز البحث والإختصاص. وقد أجمعت في معظمها على التالي:

1- نجحت المقاومة الفلسطينية في إسقاط نظرية الردع الإسرائيلية، باعتراف كبار جنرالات العدو، الذين دعوا إلى ضرورة إعادة النظر بأوضاع الجيش الإسرائيلي مستفيدين من دروس «معركة القدس». فلم تنجح سياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها قوات الاحتلال في ردع المقاومة الفلسطينية، ولا أسلوب «القوة الشبكية» التي تدعي قدرة على تدمير إمكانيات العدو بأقل تكلفة، وفي أقصر وقت ممكن. وقد أكدت المقاومة قدرتها على نقل المعركة إلى قلب مدن العدو، وتوسع مفهوم «غلاف غزة» ليشمل مساحة الـ48 بأسرها، ما دفع جنرالات العدو إلى «التروي» كثيراً في طبيعة الرد، بما في ذلك تجنب الكأس المرة المتمثلة بخوض المعركة البرية داخل القطاع، بكل ما تنطوي عليه من مخاطر. لقد ظل خطر وقوع القتلى في قواته، ووقوع جنوده أسرى بيد المقاتلين الفلسطينيين الهاجس الأكبر الذي أرَّق القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيلية، فوجدت أيديها مُقيدة، وبات وقف إطلاق النار هو المخرج. لقد فاجأت المقاومة أجهزة استخبارات العدو بما أفرجت عنه من طاقات قتالية، نقلت قواعد الاشتباك بين المقاومة الفلسطينية وقوات العدو إلى مستوى جديد، بات فيها الردع الفلسطيني جزءاً مؤثراً – وعلى نحوٍ غير مسبوق - من المشهد.

2- نشأ في سياق «معركة القدس» واقع نضالي فلسطيني استراتيجي جديد، حين تضافرت الجهود الكفاحية بكل أشكالها الممكنة، بالمقاومة الشعبية في الضفة الفلسطينية، بالقتال العسكري في قطاع غزة، في ثورة الغضب في مناطق الـ48 (وهي المفاجأة التي أذهلت الدوائر الإسرائيلية وما زالت تعيش تداعياتها الكبرى بقلق شديد)، وفي النهوض الجماهيري في مناطق اللجوء والشتات، والتي استنهضت معها قوى سياسية وتيارات شعبية، ومنظمات حقوقية وفعاليات مجتمعية، كما نجحت في استقطاب تأييد قوى كانت إما محايدة، أو حتى قريبة سياسياً من الجانب الإسرائيلي.

وهي المرة الأولى التي تنشأ فيها مثل هذه الحالة منذ الانتفاضة الثانية – 2000 التي شهدت عند اندلاعها سقوط 13 شهيداً من أبناء شعبنا في الـ48. ولا شك أن هذا التضافر في الجهود النضالية، وانخراط كافة تجمعات شعبنا في المعركة، كل من مكانه، وكل بأساليبه وإمكانياته المتاحة، ولَّدَ شعوراً بالانتصار على الاحتلال، على قاعدة أن الجميع كانت له إسهاماته في المعركة، حيث نجح في اختراق الحواجز والحدود، وأعاد تقديم نفسه شعباً واحداً موحداً، يمتلك طاقات نضالية، إذا ما توفرت لها الاستراتيجية الكفاحية الموحدة، أصبحت قوة شديدة التأثير.

3- لقد أنهت «معركة القدس» الزمن الذي يقتصر فيه خوض المعركة على جزء من شعبنا، بينما ينحصر دور الأجزاء الأخرى في التضامن بأشكاله. لقد أطل علينا زمن جديد يُنبيء أن الشعب الفلسطيني جسم واحد لا يتجزأ، يخوض معركة واحدة ملتحماً على جبهات متعددة، وبات الواقع يؤكد ضرورة صون ما تحقق من تطور في الحركة الشعبية، ما يتطلب جهوداً قيادية، لبناء أطر وآليات وتوجهات عمل تصون هذه الوحدة. وهذا واجب ملقى على عاتق القوى كافة.

بناءً على ما سبق لا بد من تخطئة ذلك الموقف الذي ينسب الإنجاز إلى جهة بعينها، أو أن فصلها الأخير هو وحده الوازن، يقابله موقف آخر يُبهت المواجهة العسكرية، باعتبارها قطعت الطريق على مقاومة شعبية كانت في طريقها للتحول إلى ظاهرة شاملة.

4- أكدت «معركة القدس» من جديد وحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة حقوقه الوطنية، ووحدة قضيته، وبالتالي وحدة المشروع الوطني مهما تمايزت أهدافه في المدى المباشر: دولة مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس على حدود 4 حزيران (يونيو) 67 + حق العودة إلى الديار والممتلكات للاجئين الذين هجروا منها منذ عام 48 + المساواة في المواطنة وما يترتب على ذلك من رفع للإجحاف والتمييز.. + المساواة القومية على قاعدة إبراز الهوية الوطنية وصونها وضمان حقوقها في مناطق الـ48.

إن تمايز هذه الأهداف لا يلغي تكاملها، بل يؤسس بعمق لهذا التكامل باعتبار أن التقدم على محور أي من هذه الأهداف، إنما ينعكس إيجاباً على المحورين الآخرين، ويخدم تقدمهما بشكل مباشر، كما يؤسس – في الوقت نفسه – لوحدة هذه الأهداف تحت عنوان الحقوق الوطنية غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، باعتبار حق الشعب الفلسطيني المطلق بتقرير مصيره بنفسه وبكامل حريته على كامل ترابه الوطني، بإطار دولة فلسطينية، حرة، ديمقراطية، تسودها المساواة الكاملة بين جميع مواطنيها.

(3)

«معركة القدس»: الانتصار الذي يُفرِّق ولا يُقَرِّب (!)

■ لقد وَحَّدَت «معركة القدس» الشعب الفلسطيني، بانخراط كافة تجمعاته في المعركة الوطنية، كل حسب طاقاته وإمكانياته وظروفه، الأمر الذي فتح أفقاً جديداً لمرحلة جديدة في النضال الوطني التحرري، قدمت نموذجاً باهراً، فاجأ العديد من القوى والمراقبين.

غير أن المفارقة الكبيرة، التي صدمت الجميع، أن الطرفين، فتح وحماس، وبدلاً من أن يجعلا من هذه المحطة نقطة انطلاق للتقارب واستعادة الحوار، من أجل التمهيد لتقليص مساحة الانقسام، وتحقيق خطوات تراكمية بوجهة إستعادة وحدة الحالة الفلسطينية إستئنافاً لما عبرت عنه محطات الحوار الوطني الثلاث: بيروت/ رام الله – 3/9/2020، القاهرة الأولى والثانية في 8-9/2 و16-17/3/2021، جعلا من «معركة القدس»، رغم ما كلفت شعبنا من تضحيات وآلام وجهد نضالي، نقطة انطلاق نحو تعميق الانقسام.

فمن جهة، رأى البعض في الانتصار فرصة لتعزيز الموقع الخاص في المعادلة الفلسطينية، فدعا إلى تشكيل قيادة مؤقتة، تحل – عملياً – مكان اللجنة التنفيذية في م.ت.ف، بينما رأى البعض الآخر في نتائج المعركة ما بات يهدد موقعه القيادي الإحتكاري للسلطة في الحكم الذاتي ومنظمة التحرير في آن، فلجأ للترويج لصيغة تبهيت الانتصار، وبالمقابل تظهير الخسائر والتضحيات، متجاهلاً المغزى السياسي الكبير الذي تحقق لصالح قضيتنا الوطنية، وقافزاً عن تداعياته الإستراتيجية فيما لو تمَّ استخلاص ما يطرح نفسه من مهام، وما يُبنى عليها، عند اعتماد إستراتيجية المواجهة الشاملة.

كذلك مارس هذا البعض سياسة الانطواء على الذات، في دفاع عن «الشرعية المهددة»، وفي مواجهة «السياسات الانقلابية» لحساب «أجندات خارجية»(!)، وعمل على حملة تعبئة داخلية عصبوية، جعلت من صون التفرد بالحكم والسلطة جوهر المعركة السياسية.

وهكذا، وبدلاً من أن تسفر المعركة عن تقدم في تحسين بيئة العلاقات الوطنية، يمهد لمرحلة جديدة، تستند إلى ما تحقق من انتصارات، باتت فيها الأجواء السياسية مشحونة بالتوترات والاحتراب الإعلامي وصولاً – في بعض الأحيان - إلى المهاترات السياسية.

(4)

وحدة الشعب أقوى من الانقسام الفئوي

■ الخلاف المستحكم بين حركتي فتح وحماس، الذي ينحى – موضوعياً - إلى تبديد الانتصارات، ليس نهاية المطاف في المسار الوطني، وليس، في الوقت نفسه، قدراً محتوماً لا انفكاك منه ولا خلاص. فالتداعيات الكبرى التي أطلقتها «معركة القدس» أكثر رسوخاً من أن تُبدد، إذ ما حققته هذه المعركة فَتَحَ المجال وأسس لإمكانيات، ومتطلبات استراتيجية، باتت ملقاة على عاتق القوى الوطنية، تطرح نفسها بإلحاح، ومن الصعب تجاهلها، أو التحلل منها. وفي مقدمة هذه القضايا:

1- إن اشتراك الشعب الفلسطيني بكل فئاته ومناطقه في العملية النضالية، وفي المعارك الكفاحية، ليس حدثاً عابراً، بل يؤشر لحالة نضوج واستعداد كفاحي، يتوجب العمل الدؤوب لتعميق هذا الواقع، عبر خطوات وآليات تراكمية، لا تفوّت الفرصة لإدامة هذه الصيغة وتعزيز مقومات تطويرها، فقد أثبت شعبنا في الـ48 – مرة أخرى - قدرته على الفعل السياسي، والانخراط في العملية الوطنية الكفاحية، والتأثير القوي والفاعل على النظام الإسرائيلي، بدليل حيرة الأخير في تفسير الالتحام الذي شهده شعبنا في كافة مناطق تواجده في «معركة القدس»، وثورة الغضب التي اجتاحت المدن المختلطة، والبلدات العربية والفلسطينية، وما زالت تداعياتها السياسية متواصلة حتى يومنا، وإن كانت قد أخذت طابع الملاحقات الأمنية لنشطاء من أبناء شعبنا الذين انخرطوا في المعركة.

2- أثبت الشتات، في مخيمات اللجوء، وفي المهاجر، أنه ليس مجرد طرف تقف مساهمته في النضال عند حدود التضامن مع شعبنا في الضفة والقطاع، بل هو جسم فاعل ومؤثر ورئيسي في معادلة الصراع. ونظرة إلى تداعيات المعركة في أوروبا والولايات المتحدة – على سبيل المثال – تؤكد حجم الانزياح في الرأي العام الغربي، ليس على الصعيد الشعبي فحسب، بل وبحدود معيّنة على الصعيد الرسمي، كالأصوات المتصاعدة في الكونغرس الأميركي، التي تطالب الإدارة الأميركية بمساءلة النظام الإسرائيلي، على انتهاكاته، وفرض قيود عليه.

3- أما في المناطق المحتلة في الضفة (وفي القلب منها القدس) والقطاع، فقد كان التناغم النضالي بارزاً، فالمقاومة المسلحة شكلت درعاً للمقاومة الشعبية، وهذه بدورها شكلت حاضناً وغطاءً سياسياً ووطنياً للمقاومة المسلحة؛ وهو أمر زرع القلق العميق في صفوف القيادتين العسكرية والسياسية في إسرائيل. وهو أمر أقلق في الوقت نفسه القيادة الرسمية الفلسطينية، لأنه وضعها في مواجهة استحقاقات سياسية كبرى، إما التقدم لتحمل مسؤولياتها الوطنية، في تعبئة الحركة الشعبية، وتوفير الغطاء السياسي لها، وبناء الأطر الكفيلة بإدامة المعركة، وإما الانفصال عن مجرى الأحداث، والوقوع في عزلة سياسية كالتي عاشتها إبان معركة «سيف القدس»، واستشعرت خلالها الخطر على شرعيتها التي واصلت تآكلها في ضوء هروبها من الاستجابة لاستحقاق صندوق الإقتراع، كما حصل في 29/4/2021 على يد إعلانها تأجيل عقد الإنتخابات، بدعاوى متهافتة، فُهم منه – رغم كل محاولات التغطية والتمويه - أنه تأجيل على ورقة إلغاء.

4- وبناء على ما سبق، فإن الضرورة الوطنية تملي عدم التخلي عن بذل الجهد الحثيث لاستعادة الوحدة المفقودة، مع الإدراك المسبق بأن القضية شديدة التعقيد، والطريق إلى معالجتها مليء بالعراقيل والصعوبات، وحتى بالألغام، نظراً لصعوبة استجابة الطرفين إلاّ تحت الضغط الجماهيري، ومآل الأحداث وربما الإكراهات اللاحقة.

بالمقابل، فإن هذا يملي على باقي أطراف الحالة الوطنية الابتعاد عن السياسات الاستفزازية، والتي من شأنها أن تسهم – بغض النظر عن النوايا – في تعقيد الأوضاع وزيادتها صعوبة. فالدعوة للحوار هي الخيار الأسلم نحو إحداث التقارب على طريق إنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة الداخلية، والتمسك بالخيارات الوطنية ورفض الخروج عنها، من أي طرف كان، هو أرض الخيار الأسلم لاحتلال موقع مؤثر في معادلة العلاقات الوطنية. أما الشعارات الاستفزازية، فليس من شأنها سوى تعزيز حالة الإنكفاء، وتعزيز حالة التمحور حول الذات على حساب الانفتاح على مجمل الحالة الوطنية.

5- وأخيراً، وليس آخراً، إلى جانب الحوار الداخلي، والضغط الجماهيري وغيرها من صيغ العمل العازلة، إن لم يكن المستئصلة لنزعة الإنقسام والتقوقع وإدارة الظهر لكل ما ينتسب بصلة إلى تراث البرنامج المشترك، وقاسمه الوطني الأكبر، إلى جانب كل هذا، فقد أكدت «معركة القدس» أن المقاومة بكافة أشكالها هي إحدى الصيغ الرئيسية، لا بل في سياقنا المحدد، قد تكون هي الصيغة الأهم لفرض سبيل إستعادة الوحدة الداخلية، فالميدان، كالكيّ، طالما بقي ساخناً، فهو يصهر المواقف المتباعدة، يلحمها، ويساهم بتوحيدها. ومن هنا أهمية إستلهام، ومن ثم العمل بموجب شعار: «المقاومة بإدامتها، هي الطريق إلى الوحدة».

(5)

خطوات لبناء الثقة ... بين أطراف الحالة الفلسطينية

■ «إجراءات بناء الثقة» هو عنوان للتفاهمات بين قيادة السلطة الفلسطينية، والجانب الإسرائيلي، في الوقت الذي يُدرك فيه القاصي قبل الداني أن معظم هذه الإجراءات المزعومة، التي تم الإتفاق عليها بالرعاية الأميركية في 13/7/2021، لن تُكتب لها الحياة، في ظل تسليم عام باستبعاد العملية السياسية، وملء الفراغ ببدائل، لا تقود سوى إلى تكريس آليات إتفاق أوسلو، وإحكام قيوده على الوضع الفلسطيني.

وإذا كانت «إجراءات بناء الثقة»، أمراً يستحق بذل الجهد من الجانب الرسمي الفلسطيني، كما يتبدى للعيان، فإن الضرورة الوطنية تفرض من باب أولى، أن تولى الخطوات الآيلة إلى إنهاء التوتر، وحالة الاحتقان في العلاقات الداخلية الفلسطينية، كل ما تستحقه من إهتمام، سواء من جانب حركة حماس أو الجانب الرسمي الفلسطيني، بما فيه البحث عن وسائل تُصلح ذات البين، سياسياً وميدانياً.

■ على جدول أعمال الحالة الوطنية الكثير مما يتوجب التوافق على تحمل مسؤولياته، فدولة الاحتلال لا تخفي رفضها إطلاق عملية سياسية تضع قرارات الشرعية الدولية موضع التنفيذ، ولا تخفي رفضها لإقامة الدولة الفلسطينية، ومن باب أولى رفضها لحق العودة؛ كذلك الأمر، فهي تجاهر بإصرارها على مواصلة الاستيطان والضم الفعلي، ولا تتوقف عن سياسة البطش اليومي في الضفة، والتهديد بالتهجير (القدس وبلداتها) ودق طبول الحرب على قطاع غزة المثخن بجراح العدوان والحصار، وهي كلها أمور تؤكد أن المعركة مع دولة الإستعمار الإستيطاني، ما زالت على أشدها، ولم تنجح كل الادعاءات عن الانفراجات الاقتصادية وغيرها، في التمويه عليها، أو طمس معالمها.

■ بالتالي، هناك الشيء الكثير مما يتوجب الالتقاء عنده، والتوافق عليه، لمواصلة استنهاض الحالة الشعبية وتعبئة صفوفها. ومما لا شك فيه أن الحوار الوطني، والتوافق على إعادة بناء المؤسسات الوطنية، بالانتخابات الشاملة هو الطريق الأقصر، والأكثر سلامة، لإرساء العلاقات الوطنية على أسس ائتلافية ديمقراطية وجامعة للكل، خاصة إذا ما توفر قانون للانتخابات يفسح المجال أمام مشاركة الجميع بعيداً عن سياسة الإقصاء والاستئثار.

■ غير أن الوقائع تشير إلى أن الطريق إلى الانتخابات دونها عقبات باتت معروفة، لأنها تطرح بنتائجها – وبكل بساطة – مسألة السلطة (أو لمن سوف تؤول السلطة) على بساط البحث، والسلطة عزيزة على قلوب من يمسك بأعنّتها، ما أدى – كما هو معروف - إلى تأجيل الانتخابات حتى إشعار آخر، ما يعني – في الواقع العملي - إلغاءها، الأمر الذي يتطلب التفكير في البديل، الذي يساعد على إدامة آلية التفاعل ما بين القوى السياسية الفاعلة الذي لا يلغي محطات الانتخابات الشاملة، بل يساعد على ملاقاة إستحقاقاتها.

■ وفي هذا الإطار يجدر التفكير باستعادة الحركة الوطنية ذلك التقليد الذي كانت تلجأ إليه وبنجاح فيما مضى، من خلال تفعيل آلية التوافق الوطني عندما يتعذر إجراء الانتخاب، حيث يمكن الاعتماد على ما هو متوفر من مؤسسات والانطلاق منها نحو العملية الأوسع في إعادة بناء المؤسسات الوطنية الجامعة، كأن يعاد تشكيل المجلس المركزي في م.ت.ف، بحيث يجمع شمل القوى الفلسطينية كافة، دون استثناء، خاصة وأنه يملك تفويضاً بصلاحيات المجلس الوطني، ما يُمكنه من انتخاب لجنة تنفيذية جامعة للكل الفلسطيني، تُلقي على عاتقهما – أي على عاتقي المجلس المركزي والتنفيذية في آن - تحضير الأجواء وتوفير الشروط المناسبة للوفاء بالاستحقاق الديمقراطي، متمثلاً بالانتخابات الشاملة، بما يعيد بناء المؤسسات الوطنية، ومن ضمنها مؤسسات م.ت.ف ومجلسها الوطني، الذي بدوره ينتخب لجنة تنفيذية جديدة جامعة للكل الفلسطيني، تكون لها دوائرها الفاعلة ذات الصلة المباشرة، بالحالة الجماهيرية والسياسية.